ألقى رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح اليوم الخميس 4 جويلية 2019، خطابا بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال بالجزائر.
الخطاب كاملا:
بـاســــم الله الـرحمـن الرحـيـم
والصــلاة والســـلام على أشـرف الـمرسلــين
ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
أيتها الـمواطنات الفضليات،
أيها الـمواطنون الأفاضل،
يطيبُ لي ونحن على مشارف الاحتفال بعيد الاستقلال والشباب أن أهنئ الشعب الجزائري بهذه الذكرى العظيمة، الذكرى السابعة والخمسين لعيد الاستقلال والشباب، وهي مناسبة عظيمة عظم تاريخ شعبنا البطل، وعظم التضحيات الجسام التي قدمها خلال أكثر من قرن وربع قرن من الـمقاومة والنضال ومقارعة الاستعمار.
إنهُ لـموعدٌ غالٍ علينا، موعدٌ يمجّد ذكرى تحرير الوطن من استعمار استيطاني بفضلِ ثورةٍ رائدةٍ خلّدت تاريخ شعبنا وأعطت لكل جزائري وجزائرية ذلك الاعتزاز الشريف الذي تغلغل في وجدانهم، وحَمَّلَهم رسالة مبادئٍ وقيمٍ ومُثُلَ عليا.
هذه الثورة وما صنعت من ملاحم وبطولات وأمجاد تبقى على مرّ الزمن، مصدرَ افتخارٍ لكل الجزائريين ومنبع إبداع لهم، وجميل أن يتّخذ الشبابُ من هذا اليوم المفعم بالقيم النوفمبرية عيدًا لهم، يستمدون منه القوة والعزيمة. ليُحَوِلوا عجلة التاريخ ويوجهونها نحو الغاية التي يريدونها.
أيتها الـمواطنات الفضليات،
أيها الـمواطنون الأفاضل،
أغتنمُ هذه السانحة لأتوجه إليكم مُجددًا، لأقاسمكم تقييمنا للوضع الذي تعيشُه بلادنا وأن أعرضَ على تقديركم نظرتنا وتصورنا لآفاقِ تطوره.
لقد مرّتْ عدةُ أشهرٍ منذ أن أخذ شعبنا الأبيّ على عاتقه مسؤولية التأثير في مجرى التاريخ، للـمطالبة بصوت عال وجلي، وبطريقة سلـمية، بتغيير منظومة الحكم وولوج عهد جديد قائم على احترام مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون والعدالة الاجتماعية.
لقد حظيَ هذا التطلُع الـمشروع بتجاوب كبير، حيث هو اليوم في صميم انشغالات السلطات العمومية. وأضحى من أولى إهتمامات الدولة.
إنّ عمليةَ التطهير الواسعة لأجهزة الدولة وتجديدِ تأطيرها تتزامن مع مكافحة صارمة لآفة الفساد وتبديد الأموال العامة، تضطلعُ بها بجِدِيّة عدالةٌ تمارس اليوم كامل مهامها وصلاحياتها.
بوِسعي بهذه الـمناسبة أن أؤكد لكم، سيداتي سادتي، أن الدولة، التي تبقى في الاستماع لـمطالب وتطلعات شعبنا العميقة، مصممة حقاً على تنفيذِ مسار التطهير هذا بلا هوادةٍ وفقًا لقوانين الجمهورية؛مع احترام مبدأ قرينة البراءة واتخاذ جميع التدابير اللازمة للتأكد من أن القرارات الـمتخذة إزاء رؤساء الشركات الـمعنية لن تمس بحقوق العمال ولن تُلحق الضرَرَ بالاقتصاد الوطني.
هنا أودُ أن أغتنم هذه الفرصة لأُثني على شعبنا لـما أظهره من نضجٍ ووعيٍ كبيريْن في هذه الـمرحلة الحساسة بالذات، عبر تصرفه الحضاري الـمثالي.
وإن ضبطَ النفس الذي أظهره مواطنونا ومصالح الشرطة والأمن في بلادنا قد مكَّنَ من الحفاظ على الطابع السلـمي للـمظاهرات، وهو يشكل بكل تأكيد رصيداً حضارياً لا يسعُ بلدنا سوى الافتخار به.
في هذا الصدد، حريٌّ بي أن أشيرَ إلى أنه، وإن كان من الضروري بذل كافة الجهود لضمان احترام وحماية الحقوق الأساسية والحريات الـمكرسة في دستورنا، لاسيما الحق في التعبير والحق في التظاهر، فإنهُ يتعيّنُ في الوقت ذاته الحرص على أن تتم ممارسة هذه الحقوق في ظل احترام الآخر وفي كنف الامتثال التام لقوانين الجمهورية، كما يتعين عدم توظيف هذه الـمبادئ للـمساس باستقرار بلادنا ووحدتها الوطنية.
أيتها الـمواطنات الفضليات،
أيها الـمواطنون الأفاضل،
لقد ناشدتُ خلال كلـمتي الأخيرة ذكاءنا الجماعي لكي نعمل معًا من أجل التوصُل إلى إيجاد الحلول الـمواتية التي تسمح لنا بالتجاوز الجماعي لعقبات هذه الـمرحلة الحاسمة من تاريخنا ونبــــْني التوافقات الضرورية الـمساعدة على تنظيم انتخابات رئاسية تستوفي كل شروط الـموضوعية في كامل الحياد والشفافية.
وتبقى هذه الانتخابات، التي ستُوفَّر لها كافة الشروط الـمطلوبة، أقول، تبقى الحل الديمقراطي الوحيد والواقعي والـمعقول. وتظلُ قناعتي العميقة أيضا، أن رئيس الجمهورية الـمنتخب بشكل ديمقراطي لا جدال فيه، هو وحدهُ الذي سيتمتع بالثقة والشرعية اللازمتين وكذا بالصلاحيات الكاملة التي تمكنُه من توَلي تحقيق هذه الرغبة العميقة في التغيير، وتلبية الـمطالب الشعبية الـمشروعة والقيام بالإصلاحات الجذرية الـمنشودة التي بلدنا هي في أمس الحاجة إليها.
إنها مقاربة عقلانية وسليمة، لذا فإننا نأمل أن تحظى بقبول جميع مواطنينا، كونها تعتبر الخيار الوحيد القادر على منحهم الكلـمة الأخيرة لاختيار بكل سيادة وحرية وشفافية الشخصية التي يرغبون في تكليفها بمهمة قيادة هذا التغيير الرامي إلى إرساء نظام جديد للحكامة.
كما أنها كذلك السبيل الوحيد الذي يكفُلُ لهم تجنب الـمقترحات الـمحفوفة بالـمخاطر وإفشال الـمخططات الـمريبة التي تهدفُ إلى جر البلاد نحو الفراغ الدستوري وتغييب دور الدولة والزجّ بها في دوامة الفوضى والاستقرار.
لهذا، وبقصد تجنيب البلاد مثل هذه الأوضاع ، ينبغي علينا جميعًا العمل على توفير كافة ظروف التنظيم والرقابة والاستشراف التي ستحيط هذه الانتخابات في جميع مراحلها، بدءً من مرحلتَيْ التحضير والتنظيم وصولاً إلى مرحلة الإعلان عن النتائج. إنّ هذه الـمراحل التي نُدرك أنها غالبًا ما تكون موضوع نقاش واهتمام، ستحظى في إطار مسار الحوار هذا بعناية خاصة ودقيقة من قبل الجميع وستكون نتاجًا لتوافق واسع مع الطبقة السياسية ومكونات الـمجتمع الـمدني والشخصيات السياسية الوطنية.
ومن أجل مناقشة هذه الظروف والترتيبات، فإني أدعو، مرة أخرى، جميع الفاعلين السياسيين الوطنيين وجميع مكونات الطبقة السياسية والشخصيات الوطنية الـمُخلصة، وكل الحساسيات الـمهيكلة للـمجتمع الـمدني، فضلاً عن أولئك الذين يحملون انشغالات شريحة من شرائح مجتمعنا، أو نخبها، وأخص منهم هنا الشباب والنساء، وأناشدهم للتعبئة من أجل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي الوطني الهام باعتباره السبيل الوحيد الكفيل بضمان مستقبل آمن ومزدهر لبلدنا.
كما أدعوهم إلى الانخراط في مسار الحوار الوطني الشامل الذي تعتزمُ الدولة إطلاقه لـمناقشة كل الانشغالات الـمتعلقة بالاستحقاق الرئاسي الـمقبل، ومن ثمة تقديم إسهامهم في تنظيم هذا الاقتراع في مناخ ملؤه التفاهم والسكينة.
إن هذا الحوار يعد أكثر من ضروري كونه يعتبر الطريقة الـمثلى للتوصل إلى الصيغ التوافقية الضرورية حول مجمل الـمسائل الـمتصلة بالانتخـــــابات الرئــاسية.
كما يُعدُّ اليوم هذا الحوار أمرًا مستعجلا يتعيّنُ على بلادنا اللجوء إليه وفي أسرع وقت ممكن لاستعادة سجيتها السياسية والـمؤسساتية، التي تمكنها من مواجهة التقلبات الاقتصادية والاجتماعية وكذا التهديدات الـمحدقة بأمــــننا الوطني ضمن محيط إقليمي ودولي معقد.
لهذه الاعتبارات وغيرها فقد أصبح من الضروري الآن وضع جميع الحسابات الثانوية والـمطالب غير الواقعية التي من شأنها إطالة أمد الوضع الراهن ومحاولة الزج بالبلاد نحو الفراغ الدستوري، الذي هو مصدر الريبة وعدم اللااستقرار.
إن مسار الحوار هذا، والذي سيتم إطلاقه من الآن، ستتم قيادته وتسييره بحرية وشفافية كاملة من قبل شخصيات وطنية مستقلة ذات مصداقية، وبلا انتماء حزبي أو طموح انتخابي شخصي. وتتمتعُ هذه الشخصيات بسلطة معنوية مؤكدة وتحظى بشرعية تاريخية أو سياسيـــة أو مهنية تؤهلها لتحمل هذه الـمسؤولية النبيلة وتساعدها على حسن قيادة هذا الحوار.
وفي هذا الصدد، ولإبعاد أي تأويل أو سوء فهم، فإن الدولة بجميع مكوناتها، بما فيها الـمؤسسة العسكرية، لن تكون طرفا في هذا الحوار وستلتزم بأقصى درجات الحياد طوال مراحل هذا الـمسار، وستكتفي فقط بوضع الوسائل الـمادية واللوجستية تحت تصرف هذا الفريق.
وسيكون للـمشاركين في هذا الحوار حرية مناقشة كافة الشروط الواجب توفيرها لضمان مصداقية الاستحقاق الرئاسي الـمقبل، والتطرق إلى كل الـمناحي التشريعية والقانونية والتنظيمية الـمتعلقة به، بما فيها مجريات الرزنامة الانتخابية، وكذا الـميكانيزمات الخاصة بمراقبته والإشراف عليه.
لذا، يجب أن يكون هذا الحوار شاملا قدر الإمكان، وسيكون بوسع فريق الشخصيات هذه دعوة أي طرف يراه مفيدا لإنجاز مهمته وتحقيق الغرض من إنشائه، لاسيما الأحزاب السياسية وفعاليات الـمجتمع الـمدني والتنظيمات الإجتماعية الـمهنية والشخصيات الوطنية، بما فيها الشخصيات الـمنبثقة عن الحركة الشعبية، قصد تدوين مواقفهم وأرائهم ومقترحاتهم. كما يتعين أن يبت أيضا في شكل هذه اللقاءات والنقاشات.
وسيركزُ هذا الحوار على هدفه الاستراتيجي الأوحد ألا وهو تنظيم الانتخابات، التي يتعيّن أن تجُرى في أقرب الآجال الممكنة. وبطبيعة الحال سيتم هذا الحوار في إطار الدستور الذي يفرض الحفاظ على الدولة واحترام مؤسساتها وإعلاء المصلحة العليا للأمة.
ومن هذا المنظور، ستكون السلطة أو الهيئة التي ستعهد إليها مهمة تنظيم العملية الانتخابية ومراقبتها في جميع مراحلها في صلب هذه النقاشات، كما سيدور الحوار أيضا حول كيفية تسيير هذه السلطة أو الهيئة وتحديد مهامها وصلاحياتها وطريقة تنظيمها وسيرها وتركيبتها، وفي اختيار الشخصيات التوافقية التي ستُســيّـرها.
وبما أن هذه السلطة قد تتولى صلاحيات الإدارة العمومية في الـمجال الانتخابي والتدخل في كامل ربوع التراب الوطني ، سيكون لها ممثلين على مستوى الولايات والبلديات والـمقاطعات الانتخابية لجاليتنا بالخارج، كما سيكون لها أن تسير بنفسها ميزانيتها الخاصة، إضافة إلى الاعتمادات الأخرى التي قد تخصصها لها الدولة.
وسينجرُ عن قيام هذه السلطة، لِزامًا، اقتراح مشروع قانون خاص بالـموضوع، وكنتيجة لذلك، سيتم أيضا تكييف النظام التشريعي والتنظيمي القائم ، لاسيما قانون الانتخابات، الذي يحتاج بالتأكيد إلى مراجعة قصد توفير الضمانات الكفيلة بتأمين شروط الحياد والشفافية والنزاهة الـمطلوبة.
كما سيكون من الضروري النظر في كيفية التوفيق بين هذه السلطة التي سيتم إنشاؤها مع الهيئة العليا المستقلة لمراقبة الانتخابات التي ينص عليها الدستور والتي يمكن أن تتم إعادة النظر في تشكيلها.
هذا، وستعمل الدولة على أن يتم مراعاة التوصيات والنصوص الـمنبثقة عن مسار الحوار أقول سيتم مراعاتها. كما ستعكف الدولة على توفير جميع الشروط الـمادية واللوجيستية التي تتيح إطلاق هذا الحوار في أقـــــرب الآجـــــال، فضلا عن ضمان سيره في مناخ يسوده الهدوء والسكينة.
أيتها الـمواطنات الفضليات،
أيها الـمواطنون الأفاضل،
كما هو بيّن، فإن الدولة، ومن خلال هذا العرض السياسي الذي قدمته لكم اليوم مصممة على الـمضي قدما نحو إجراء التغيير الذي تنشدونه واستجماع الشروط اللازمة لتجسيد هذا الهدف بشكل ممنهج.
والأمر يعود إليكم الآن لتبَنِّي هذه الـمبادرة ولإعلائها.
فإن فعلتُم، فقد أعليتم الـمصلحة العليا للأمة، التي هي القاسم الـمشترك بيننا جميعا، كونها تتقدّم كافة الـمصالح، الشخصية منها أو الحزبية.
إن التحديات التي تواجهنا تخصُّ مرحلة حاسمة من مستقبل وطننا ومستقبل أولادنا والأجيال القادمة.
إن الجزائر وطنُنا جميعًا، علينا أن نحميه ونعمل من خلال الحوار على توفير الاجواء الكفيلة ببناء مستقبله الواعد، المستقبل الذي حلم به الآباء والأجداد وتناضل من أجله اليومَ الأجيال الصاعدة بكل جرأة وتصميم وإخلاص. فالنتجند جميعا للدفاع ولحماية هذا الوطن، ونقوي وحدته وأمنه واستقراره، وفاءً لأمانة الشهداء وصوْنًا لوديعتهم.
هنيئا لشعبنا بهذا اليوم الخالد.
العزة لله، والـمجد للوطن، والخلود للشهداء الأبرار.
“تحيا الجزائر”
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته