لقد ظلت المؤسسة الملكية، تضطلع بأدوار مهمة في تدبير قضية الصحراء، وتبرز أهميتها الإستراتيجية، سواء على المستوى الوطني أوالدولي، مؤمنة بعدالة قضيتها وقناعة راسخة مبنية على الشرعية التاريخية والقانونية، فكانت دائما ماتتسم ردات الفعل للمؤسسة الملكية بالسرعة والدقة والصرامة مع مختلف التطورات التي تشهدها وحدتنا الترابية، كما أن إيمان الشعب المغربي في الإنفتاح الرشيد والتفاعل الحكيم للسياسة جلالته الرائدة، وفعالية مختلف نخبه، برهن للعالم مدى استعداده لإيجاد الحل المنصف والعادل وأيضا العقلاني والديموقراطي والدائم لقضية الصحراء.
وهي المسألة التي أتت أكلها حيث انتقلت فيها بلادنا من وضعية دفاعية إلى وضعية هجومية واستشرافية. وهو مسار يأكد إصرار المغرب وثباته على تفكيك كل محاولات الانفصال والتقسيم التي تستهدف المغرب ووحدته الوطنية.
فكلنا نعلم ما واجهته بلادنا فيما يخص مسألة الحدود والمجال مع أكثر من قوة استعمارية وماتلاها من معارك قانونية وسياسية ودبلوماسية ضارية لإستعادة حقوق المغرب الشرعية والتاريخية على أرضه، حيث أنه ولأزيد من عقد من الزمن واجت فيها بلادنا كل أشكال التصدي والتنكيس التي تستهدف تجريد المغرب عن صحراءه والتأسيس لكيان وهمي يفقد المغرب سيادته وسلطته عن جزء من أراضيه القانونية، التي يؤكدها التاريخ وتوثقها العديد من الإتفاقيات الدولية التي ربطت المغرب بدول المعمور منذ القرن السادس عشر.
وهي المسألة التي فطن إليها جلالته في العشرية الثانية مند توليه مقالد الحكم، كما صرح بذلك في خطاب 6 نونبر 2013، حينما شدد جلالته على وجود ” تعامل غير منصف مع المغرب، يرجع بالأساس لما يقدمه الخصوم من أموال ومنافع في محاولة لشراء أصوات ومواقف بعض المنظمات المعادية لبلادنا، وذلك في إهدار لثروات وخيرات شعب شقيق، لاتعنيه هذه المسألة، بل إنها تقف عائقا أمام الاندماج المغاربي”.
فالوعي الملكي بالأخطار الجسيمة التي تلف قضية الوحدة الوطنية، وتدفع بالملف إلى النفق المسدود، كانت كثيرة ومتشعبة، مسألة دفعت جلالته إلى الرفع من وثيرة العمل والتحرك الوطني السريع، لتدارك مجموعة من الأخطاء التي راكمها المغرب فيما يخص قضية الدفاع عن الوحدة الوطنية. خصوصا بعد مجموعة من التطورات التي عرفتها السنوات الأخيرة والتي أوضحت على أن صعوبة حل الملف الوحدوي تنطوي على قدر كبير من الإفتعال الدولي والإقليمي، والذي يفضي إلى أن المجتمع الدولي غير مهتم بالبحث الجدي عن حلول للمشكلة، بقدر اهتمامه الفائق بتأمين مصالحه الإقتصادية والسياسية والاستراتيجية في منطقة الصراع، لذا فإن أغلب المبادرات والتدخلات العالمية والإقليمية في هذا النزاع، هي من قبيل المراوغة، ومن قبيل إيجاد ذرائع منطقية ومقبولة لنزع ثبوتية الشرعية للمملكة المغربية على هذا الجزء من أراضيها.
فكان شعار المرحلة لدى جلالة الملك، “الإنتباه واليقظة والكثير من المبادرة والحكمة، في ظل المراقبة الدولية، على اعتبار أن قضية الصحراء هي قضية الجميع، في سعي تشاركي كل من موقعه للدفاع عن حوزة الوطن، فالصحراء مسؤولية كل واحد من أفراد هذا الوطن”.
والقيادة الملكية للملف الوحدوي مسألة موكولة للمؤسسة الملكية بموجب الدستور لحماية حوزة الوطن، وهو الأمر الذي يدركه جلالة الملك محمد السادس جيدا، حيث قال: “…وقد آلينا على نفسنا منذ اعتلينا عرش أسلافنا المیامین مواصلة استكمال وترسيخ ما حققه والدنا المنعم، طیب الله ثراه، من مكاسب وطنية ودولية في هاتين المسیرتین سائرين على نهجه القويم في اعتماد توطيد الديمقراطية واللامركزية والجهویة والتمسك بفضائل الإجماع الوطني حول الوحدة الترابية والتضامن لتدارك ما فوته الاستعمار على رعايانا الأوفياء في الصحراء من لحاق بركب التنمية الشاملة للمغرب الحر الموحد” . كما أنه وبفضل تكوينه القانوني في مجال العلاقات الدولية، وإلمامه بدواليب صياغة السياسة الخارجية المغربية، استطاع جلالة الملك محمد السادس أن يعيد ضبط مخرجات الحل في الملف عبر طرح مبادرة الحكم الذاتي كحل سياسي وسلمي والأكثر ملائمة لحل قضية الصحراء، ضمن معها جلالته وبشكل جدري تغيير الأوضاع على كافة الأوجه الدبلوماسية لحل قضية الصحراء.
وبالتالي فما حققه المغرب اليوم، يمكن رده الى التعامل الناجع لجلالة الملك في تبنيه سياسة إيجابية في التعامل مع الملف، ومن التحفظات التي أبانت عليها بعض الدول إزاء وحدة المغرب وسيادته الترابية والتي تعامل معها جلالته بكل حكمة عبر تنويع شركائه ورسم خريطة جديدة لعلاقاته. مسار خلخل أوراق المنظومة العلائقية مع شركائه التقليديين ودفعت بهم إلى إعادة ترتيب أوراقهم الإستراتيجية في محاولة لكسب المغرب كحليف يعتمد عليه، وهي مسألة يمكن استقرائها من كم التراكمات والتحولات الإستراتيجية الفعلية التي جعلت المغرب في موقف قوة وثبات إزاء سيادته الوطنية. على اعتبار أن المغرب أصبح يحظى بدور ريادي وقيادي في إفريقيا وأصبحت مواقف المغرب في قضايا متعددة تحظى بشبه إجماع، وذلك بناء على مؤشرات ومعطيات مؤثرة تبين الدفعة القوية التي أعطاها الملك محمد السادس للدبلوماسية المغربية.
فالمغرب تمكن من كسب معركة الإعتراف بسلطتنا على الصحراء المغربية، بعد معركة شرسة أتبث فيها المغرب شرعية قضيته وسيادة مواقفه ونفسه الطويل، خصوصا بعدما تمكن من مسعاه الشرعي لترسيم مجال حدوده البحرية المقابلة للصحراء المغربية ومعه تحديد منطقته الإقتصادية الخالصة، على الرغم من الضغوطات الإسبانية لإزاحة المغرب على مساره التقدمي، والتي آلت للفشل بعد إصدار القانونين 38-17و37-17 المطروحين منذ 2017 بالجريدة الرسمية في أبريل 2020، كما تم إعمال قانون البحار لسنة 1982 وكذا مراجعة ظهير 1973 الذي لم يكن يدرج الصحراء في مجال تطبيقه، ويحد من إمكانية استثمارها في التنمية الاقتصادية والتصدي للقرصنة البحرية وشبكات الهجرة السرية والمخدرات والاتجار في البشر، المسألة المفقودة التي تستدعيها الظرفية الأمنية والعالمية والدول التي لها مصالح بالمنطقة.
وفي حدث تاريخي، بجلاله تمكن الملك محمد السادس من استعادة كرسي الريادة الإفريقي ضاربا بعرض الحائط كل المخططات والتكتلات الإقليمية لمحاصرة المغرب وتطويقه في قضيته وفي زعامته لإفريقيا.
وهي نفس الخطوة ذات البعد البراغماتي التي اتخذها المرحوم له الحسن لثاني عندما انسحب من الاتحاد الإفريقي إثر اعترافه بالكيان الوهمي، وهي المسألة الذكية التي أغلق بها قوس افريقيا وسجل اعتراضه والبحث عن أفق آخر لحل الملف بعودته إلى حظيرة الأمم المتحدة.
حيث حصدت عودة المغرب إلى الإتحاد الإفريقي مراجعة أزيد من 50 دولة لموقفها الداعم للكيان الوهمي، مما قلص من عدد المعترفين به إلى أدنى مستوى مما عمق وشكك من مصداقية الكيان الوهمي، خصوصا بعد العودة إلى أعمال القرصنة والمليشيات التي أدت الي خلق أزمة دولية في المنطقة العازلة للكركرات مما أدى الى توقف حركة مرور السلع بين المغرب ودول افريقيا، وهي مسألة أعادت على إثرها دول إفريقية النظر في موقفها ومصداقية البوليساريو ليصل عدد الدول الغير المعترفة به، إلى 164 دولة، وبالمقابل حشد فيها المغرب العديد من النقاط على المستوى الدولي والإفريقي إثر التدخل المغربي لحل الأزمة بعد صدور التعليمات السامية لجلالته رئيس أركان الحرب والقائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، للتحرك المغربي وفتح المعبر، المسألة التي أبانت في نفس الوقت للمجتمع الدولي وهم شرعية البوليساريو ونوهت بالموقف المغربي المتزن. والذي عمق وقع الهزيمة السياسية، خصوصا بعد الإشادة الدولية للتحرك القيادي لجلالة الملك محمد السادس مقابل الموقف المتهور والغير مضبوط من أنصار الطرح الإنفصالي بما فيهم الجزائر.
كما كان من شأن الإعتراف الأمريكي، بمغربية الصحراء وسيادة المملكة على كافة أقاليمها الجنوبية، تتويجا أعتبره انتصارا تاريخيا للقضية الوطنية ولمغربية الصحراء، والذي جاء من خلال مرسوم رئاسي، يعلن فيه الرئيس الأمريكي اعترافا قانونيا بسيادة المغرب الوحيدة على أراضيه.
ولعل هذا القرار يأتي مسايرا للظروف الإقليمية والعالمية التي يعيشها العالم، والتي تأتي ملائمة، كون الدول الأوروبية وعلى رأسها اسبانيا، التي وجدت نفسها معنية بالانفتاح على قوى دولية وكذا إقليمية صاعدة، وفي مقدمتها المغرب، في وقت تصبح فيه المصالح هي سيدة المواقف السياسية والاستراتيجية، لتعلن وبشكل رسمي موقفها الجديد بخصوص ملف الصحراء، والذي يدعم بشكل واضح مقاربة الحكم الذاتي المغربي كحل سياسي وسلمي والأكثر ملائمة لحل قضية الصحراء. قرار يأتي ليقتلع ماتبقى من أوهام، للطرف المناوئ للوحدة الترابية، كما يأتي ليتجاوب ويتفاعل مع الأسس التي يرغب المغرب في وضعها لتحديد وضبط علاقاته بين شركائه، بشكل مستدام، فهذه الرسالة تترجم بشكل كبير الطموح المشترك بين البلدين، وسعي اسبانيا لكسب المغرب كحليف استراتيجي، يحظى بحضور إقليمي ودولي مميز.
وهي المسألة التي سوف تشكل بالفعل تحولا مهما في مسار الوحدة الوطنية، على اعتبار أنها سوف تبث الثقة لدى دول صديقة وحليفة للإعتراف بمغربية الصحراء، وربما لفتح قنصليات لها في الأقاليم الجنوبية. وهو ماسيشكل لامحالة فاتحة لإنتصارات أخرى للقضية الوطنية، وعلى المغرب اليوم الاستفادة منها بأقصى الحدود لوضع حد نهائي وجدري لقضية الصحراء قبل تغيير هذه الظروف.
بقلم : د/ راضية الدباغ