تونس تفقد بريقها الإعلامي: “الاستثناء العربي” يترنّح تحت وطأة الأزمة والقيود السياسية

في وقت كانت تُصنّف فيه تونس كنموذج ملهم لحرية الصحافة بعد 2011، دقّت منظمة “مراسلون بلا حدود” ناقوس الخطر معلنة عن أكبر تراجع شهدته البلاد في تصنيفها الدولي. فقد خسرت تونس 11 مرتبة دفعة واحدة في مؤشر حرية الصحافة، لتحتل المرتبة 129 عالمياً، في ما وصفته المنظمة بـ”الانتكاسة الأكبر في شمال إفريقيا”.

التقرير الأخير، الذي ناقشته حلقة برنامج “المرصد” بتاريخ 19 ماي الجاري، اعتبر أن الأزمة الاقتصادية أصبحت التهديد الأخطر على استقلالية الصحافة، متجاوزة في أثرها حتى الاعتداءات المباشرة. ففي تونس، تختنق المؤسسات الإعلامية الخاصة تحت وطأة الانكماش المالي، بعد تقلص إيرادات الإشهار من قطاعات استراتيجية مثل الاتصالات والبنوك والصناعات الغذائية، وهو ما ينذر بإغلاق محتمل للعديد منها.

لكن الأزمة لا تقف عند حدود المال، بل تتعداها إلى مناخ سياسي مضطرب، تغيب فيه الإرادة الإصلاحية وتنعدم فيه قنوات الحوار بين السلطة والصحفيين، بحسب نقابة الصحفيين التونسيين. هذا الغياب، بحسب النقابة، يكرّس حالة من الانفصال بين الإعلام وصنّاع القرار، ويضاعف من هشاشة الحريات.

فراغ مؤسساتي وتضييق تشريعي

وفي ظل غياب “الهايكا”، الهيئة التعديلية المستقلة، تحذر الأوساط الإعلامية من تحوّل القضاء إلى سلطة تأديبية مباشرة في القضايا الصحفية، ما يُفقد القطاع آلياته الذاتية في التنظيم والمساءلة. بل إن عدداً من الصحفيين أصبحوا عرضة للملاحقات القضائية لمجرد استضافة أصوات مثيرة للجدل أو التعبير عن آراء مخالفة.

وتُستخدم بعض النصوص القانونية، كمراسيم مجلة الاتصالات، في تجريم مضامين صحفية بذريعة مخالفة التوجهات الرسمية، ما يثير مخاوف من عودة مقنّعة لرقابة سياسية في زمن يفترض أنه ديمقراطي.

مبادرات نقابية تصطدم بجدار الواقع

رغم التحركات التي تقودها النقابة منذ سنوات لمواجهة التراجع، لم تُثمر الجهود عن تغيير ملموس. فمع تفاقم الهشاشة الاجتماعية والمهنية، أصبح العديد من الصحفيين التونسيين يعيشون على هامش الاستقرار الوظيفي والكرامة المهنية. وفي محاولة للخروج من هذا المأزق، اقترحت النقابة دعم مشاريع إعلامية رقمية مستقلة يقودها الصحفيون أنفسهم، تستفيد من التحول الرقمي وتطور الذكاء الاصطناعي. غير أن غياب نموذج اقتصادي مستدام يجعل هذه المبادرات عرضة للفشل المبكر.

من “الاستثناء” إلى النموذج المأزوم

خلال خمس سنوات فقط، انتقلت تونس من المرتبة 72 إلى المرتبة 129 في مؤشر حرية الصحافة، في ما اعتبره مراقبون انعكاساً لتراكمات بدأت منذ سنوات ما بعد الثورة، وبلغت ذروتها بعد 25 يوليو 2021، حين دخلت البلاد مرحلة سياسية استثنائية أضعفت الضمانات الدستورية وأثّرت سلباً على مناخ الحريات.

تحذر “مراسلون بلا حدود” من أن التقاء الأزمة الاقتصادية مع القيود السياسية يهدد بنسف ما تبقى من مكتسبات حرية التعبير في تونس، ويجعل الصحافة التونسية مهددة لا فقط في مضمونها، بل في وجودها.

المصدر : صحافة بلادي